فصل: سنة ستين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر إجلاء القارغلية من وراء النهر:

كان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان ابن حين تكين، واستعمله عليها، وهو من بيت الملك، قديم الأبوة، فبقي فيها مدبر لأمورها، فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال، فتقدم جغري خان إليهم بذلك، فامتنعوا، فالزمهم وألح عليهم بالانتقال، فاجتمعوا وصارت كلمتهم واحدة، فكثروا وساروا إلى بخارى، فأرسل الفقيه محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة، رئيس بخارى، إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يعظم شرهم، وينهبوا البلاد.
وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم: إن الكفار بالأمس لما طرقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل، وأنتم مسلمون، غزاة، يقبح منكم مد الأيدي إلى الأموال والدماء، وأنا أبذل لكم من الأموال ما ترضون به لتكفوا عن النهب والغارة؛ فترددت الرسل بينهم في تقرير القاعدة، وابن مازة يطاول بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان، فلم يشعر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمهم جغري خان في جيوشه وجموعه بغتة ووضع السيف فيهم، فانهزموا وتفرقوا، وكثر القتل فيهم والنهب، واختفى طائفة منهم في الغياض والآجام ثم ظفر بهم أصحاب جغري خان فقطعوا دابرهم، ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضررهم، وخلت تلك الأرض منهم.

.ذكر استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستان:

في هذه السنة استولى الأمير صلاح الدين سنقر، وهو من مماليك السنجرية، وعلى بلاد الطالقان، وأغار على حدود غرشستان، وتابع الغارات عليها حتى ملكها، فصارت الولايتان له وبحكمه، وله فيها حصون منيعة، وقلاع حصينة، وصالح الأمراء الغزية وحمل لهم الإتاوة كل سنة.

.ذكر قتل صاحب هراة:

كان صاحب هراة الأمير إيتكين بينه وبين الغز مهادنة، فلما توفي ملك الغور محمد طمع في بلادهم، فغزاهم غير مرة، ونهب وأغار، فلما كان في شهر رمضان من هذه السنة، جمع إيتكين جموعه وسار إلى بلاد الغور، وساروا إلى باميان وإلى ولاية بست والرخج فسلمهما إلى بعض أولاد ملك الغور؛ وأما إيتكين فإنه توغل في بلاد الغور، فأتاه أهلها وقاتلوه وصدوه، وصدقوه القتال، فانهزم عسكره، وقتل هو في المعركة.

.ذكر ملك شاه مازندران قومس وبسطام:

قد ذكرنا استيلاء المؤيد صاحب نيسابور على قومس وبسطام وتلك البلاد، وأنه استناب بها مملوكه تنكز، فلما كان هذه السنة جهز شاه مازندران جيشاً واستعمل عليهم أميراً له يعرف بسابق الدين القزويني، فسار إلى دامغان فملكها، فجمع تنكز من عنده من العساكر وسار إليه إلى دامغان، فخرج إليه القزويني، فوصل إلى تنكز على غرة منه، فلم يشعر ه وعسكره إلا وقد كبسهم القزويني ووضع السيف فيهم، فتفرقوا وولوا منهزمين، واستولى عسكر شاه مازندران على تلك البلاد، وعاد تنكز إلى المؤيد صاحب نيسابور، واشتغل بالغرة على بسطام وبلاد قومس.

.ذكر عصيان غمارة بالمغرب:

لما تحقق الناس موت عبد المؤمن سنة تسع وخمسين، ثارت قبائل غمارة مع مفتاح بن عمرو، وكان مقدماً كبيراً فيهم، وتبعوه بأجمعهم، وامتنعوا في جبالهم، وهي معاقل مانعة، وهم أمم جمة، فتجهز إليهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ومعه أخواه عمرو وعثمان، في جيش كبير من الموحدين والعرب، وتقدموا إليهم، فاقتتلوا سنة إحدى وستين وخمسمائة، فانهزمت غمارة، وقتل منهم كثير، وفيمن قتل مفتاح بن عمرو مقدمهم، وجماعة من أعيانهم ومقدميهم، وملكوا بلادهم عنوة.
وكان هناك قبائل كثيرة يريدون الفتنة، فانتظروا ما يكون من غمارة، فلما قتلوا ذلت تلك القبائل وانقادوا للطاعة، ولم يبق متحرك لفتنة ومعصية فسكنت الدهماء في جميع المغرب.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أغار الأمير محمد بن أنز على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون، فقتل منهم وغنم وسبى وأكثر وملأ أصحابه أيديهم من ذلك.
وفيها توفي أبو الفضل نصر بن خلف ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه شمس الدين أبو الفتح احمد بن نصر؛ وكان أبو الفضل ملكاً عادلاً عفيفاً عن رعيته، وله آثار حسنة في نصرة السلطان سنجر في غير موقف.
وفيها خرج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر لا تحصى وقصد بلاد الإسلام التي بيد قلج أرسلان وابن دانشمند، فاجتمع التركمان في تلك البلاد في جمع كبير، فكانوا يغيرون على أطراف عسكره ليلاً، فإذا أصبح لا يرى أحداً.
وكثر القتل في الروم حتى بلغت عدة القتلى عشرات ألوف، فعاد إلى القسطنطينية، ولما عاد ملك المسلمون منه عدة حصون.
وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها بها؛ والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري بالعربية. ثم دخلت:

.سنة ستين وخمسمائة:

.ذكر وفاة شاه مازندران وملك ابنه بعده:

في هذه السنة، ثامن ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي ابن شهريار بن قارن، ولما توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موته أياماً، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد ثم أظهره، فلما ظهر خبر وفاته أظهر إيثاق صاحب جرجان ودهستان المنازعة لولده في الملك، ولم يرع حق أبيه عليه، فإنه لم يزل يذب عنه ويحميه إذا التجأ إليه، ولكن الملك عقيم، ولم يحصل من منازعته على شيء غير سوء السمعة وقبح الأحدوثة.

.ذكر حصر عسكر المؤيد نسا ورحيلهم عنها:

كان المؤيد قد سير جيشاً إلى مدينة نسا، فحصرها إلى جمادى الأولى في هذه السنة، فسير خوارزم شاه ايل أرسلان بن أتسز جيشاً إلى نسا، فلما قربوها رحل عنها عسكر المؤيد وعادوا إلى نيسابور أواخر جمادى الأولى.
وسار عسكر المؤيد إلى عسكر خوارزم، لأنهم توجهوا إلى نيسابور، فتقدم العسكر المؤيدي ليردهم عنها، فلما سمع العسكر الخوارزم بهم رجع عنهم، وصار صاحب نسا في طاعة خوارزمشاه والخطبة له فيها.
وسار عسكر خوارزم إلى دهستان، فالتجأ صاحبها الأمير إيثاق إلى المؤيد، صاحب نيسابور، بعد تمكن الوحشة بينهما، فقبله المؤيد وسير إليه جيشاً كثيفاً، فأقاموا عنده حتى دفع الضرر عن نفسه وبلده من جهة طبرستان، وأما دهستان فإن عسكر خوارزم غلبوا عليها وصار لهم فيها شحنة.

.ذكر استيلاء المؤيد على هراة:

قد ذكرنا قتل صاحب هراة سنة تسع وخمسين، فلما قتل تجهز الأمراء الغزية وساروا إلى هراة وحصروها، وقد تولى أمرها إنسان يلقب أثير الدين، وكان له ميل إلى الغز، وهو يحاربهم ظاهراً، ويراسلهم باطناً، فهلك لهذا السبب خلق كثير من اهل هراة، فاجتمع أهلها فقتلوه، وقام مقامه أبو الفتوح علي بن فضل الله الطغرائي، فأرسل أهلها إلى المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، بالطاعة والانقياد إليه، فسير إليهم مملوكه سيف الدين تنكز في جيش، وسير جيشاً آخر أغاروا على سرخس،، ومرو، فاخذوا دواب الغز وعادوا سالمين. فلما سمع الغز بذلك رحلوا عن هراة إلى مرو.

.ذكر الحرب بين قلج ارسلان وبين ابن دانشمند:

في هذه السنة كانت الفتنة بين الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية وما يجاورها من بلد الروم، وبين ياغي أرسلان بن دانشمند، صاحب ملطية وما يجاورها من بلد الروم، وجرى بينهما حرب شديدة.
وسببها أن قلج أرسلان تزوج ابنة الملك صليق بن علي بن أبي القاسم، فسيرت الزوجة إلى قلج أرسلان مع جهاز كثير لا يعلم قدره، وأغار ياغي أرسلان صاحب ملطية عليه، وأخذ العروس وما معها وأراد أن يزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن دانشمند، فامرها بالردة عن الإسلام ففعلت لينفسخ النكاح من قج أرسلان ثم عادت إلى اللإسلام، فزوجها من ابن أخيه، فجمع قلج ارسسلان عسكره وسار إلى ابن دانشمند، فالتقيا واقتتلا، فانهزم قلج أرسلان، والتجأ إلى ملك الروم، واستنصره، فأرسل إليه جيشاً كثيراً، فمات ياغي أرسلان بن دانشمند في تلك الأيام، وملك قلج أرسلان بعض بلاده، واصطلح هو والملك إبراهيم بن محمد بن دانشمند، لأنه ملك البلاد بعد عمه أرسلان، واستولى ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة أنكورية واستقرت القاعدة بينهم واتفقوا.

.ذكر الفتنة بين نور الدين وقلج أرسلان:

في هذه السنة كانت وحشة متأكدة بين نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، وبين قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب الروم، أدت إلى الحرب والتضاغن، فلما بلغ خبرها إلى مصر كتب الصالح بن رزيك، وزير صاحب مصر، إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك ويأمره بموافقته، وكتب فيه شعراً:
نقول ولكن أين من يتفهم ** ويعلم وجه الرأي والرأي مبهم

وما كل من قاس الأمور وساسها ** يوفق للأمر الذي هو أحزم

وما أحد في الملك يبقى مخلداً ** وما أحد مما قضى الله يسلم

أمن بعد ما ذاق العدى طعم حربكم ** بفيهم وكانت وهي صاب وعلقم

رجعتم إلى حكم التنافس بينكم ** وفيكم من الشحناء نار تضرم

أما عندكم من يتقي الله وحده ** أما في رعاياكم من الناس مسل

تعالوا لعل الله ينصر دينه ** إذا ما نصرنا الدين نحن وأنتم

وننهض نحو الكافرين بعزمة ** بأمثالها تحوى البلاد وتقسم

وهي أطول من هذا. هكذا ذكر بعض العلماء هذه الحادثة وأن الصالح أرسل بهذا الشعر، فإن كان الشعر للصالح فينبغي أن تكون قبل هذا التاريخ، لأن الصالح قتل سنة ست وخمسين في رمضان، وإن لم يكن الشعر له فالحادثة في هذا التاريخ، ويحتمل أن يكون هذا التنافس كان أيام الصالح فكتب الأبيات ثم امتد إلى الآن.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في صفر، وقع بأصفهان فتنة عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي وبين القاضي وغيره من أصحاب المذاهب، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة قتل فيها خلق كثير، واحترق وهدم كثير من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبح صورة.
وفيها بنى الإسماعيلية قلعة بالقرب من قزوين فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها، فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفاً من شرهم وغائلتهم، فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها، وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس.
وحكى لي بعض أصدقائنا بل مشايخنا من الأئمة الفضلاء قال: كنت بقزوين أشتغل بالعلم، وكان بها إنسان يقود جمعاً كبيراً، وكان موصوفاً بالشجاعة، وله عصابة حمراء، إذا قاتل عصب بها رأسه، قال: كنت أحبه وأشتهي الجلوس معه؛ فبينما أنا عنده يوماً إذا هو يقول: كأني بالملاحدة وقد قصدوا البلد غداً، فخرجنا إليهم وقاتلناهم، فكنت أول الناس وأنا متعصب بهذه العصابة، فقاتلناهم فلم يقتل غيري، ثم ترجع الملاحدة، ويرجع أهل البلد.
قال: فوالله لما كان الغد إذ وقع الصوت بوصول الملاحدة، فخرج الناس؛ قال: فذكرت قول الرجل، فخرجت والله ليس لي همة إلا أن أنظر هل يصح ما قال أم لا. قال: فلم يكن إلا قليل حتى عاد الناس وهو محمول على أيديهم قتيلاً بعصابته الحمراء، وذكروا أنه لم يقتل بينهم غيره، فبقيت متعجباً من قوله كيف صح، ولم يتغير منه شيء، ومن أين له هذا اليقين؟ ولما حكى لي هذه الحكاية لم أسأله عن تاريخها، وإنما كان في هذه المدة في تلك البلاد، فلهذا أثبتها هذه السنة على الظن والتخمين.
وفيها قبض المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، على وزيره ضياء الملك بن أبي طالب سعد بن أبي القاسم محمود الرازي وحبسه، واستوزر بعده نصير الدين أبا بكر محمد بن أبي نصر محمد المستوفي، وكان أيام السلطان سنجر يتولى إشراف ديوانه، وهو من أعيان الدولة السنجرية.
وفي هذه السنة وردت الأخبار أن الناس حجوا سنة تسع وخمسين، ولقوا شدة، وانقطع منهم خلق كثير في فيد والثعلبية وواقصة وغيرها، وهلك كثير، ولم يمض الحاج إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، لهذه الأسباب، ولشدة الغلاء فيها، وعدم ما يقتات، ووقع الوباء في البادية وهلك منهم عالم لا يحصون، وهلكت مواشيهم، وكانت الأسعار بمكة غالية.
وفيها، في صفر، قبض المستنجد بالله على الأمير توبة بن العقيلي، وكان قد هرب منه قرباً عظيماً بحيث يخلو معه، وأحبه المستنجد محبة كثيرة، فحسده الوزير ابن هبيرة، فوضع كتباً من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا، ففعلوا ذلك وأخذوا وأحضروا عند الخليفة، فأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد، فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيد، وكانت حلل توبة على الفرات، فحضر عنده، فأمر بالقبض عليه، فقبض وأدخل بغداد ليلاً وحبس، فكان آخر العهد به، فلم يمتع الوزير بعده بالحياة بل مات بعد ثلاثة أشهر. وكان توبة من أكمل العرب مروءة وعقلاً وسخاء وإجازة، واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق في الناس.
وفيها، في ربيع الأول، توفي الشهاب محمود بن عبد العزيز الحامدي الهروي وزير السلطان أرسلان، ووزير أتابكه شمس الدين إيلدكز.
وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد أبو المظفر،، ووزير الخليفة، وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة تسعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها للحنابلة بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، ديناً، خيراً، عالماً، يسمع حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، وله فيه التصانيف الحسنة؛ وكان ذا رأي سديد، ونافق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى إن المقتفي كان يقول: لم يزر لبني العباس مثله؛ ولما مات قبض على أولاده وأهله.
وتوفي بهذه السنة محمد بن سعد البغدادي بالموصل، وله شعر حسن، فمن قوله:
أفدي الذي وكلني حبه ** بطول إعلال وإمراض

ولست أدري بعد ذا كله ** أساخط مولاي أم راض

وفيها توفي الشيخ الإمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الشافعي، تفقه على الفقيه الكيا الهراسي، وكان واحد عصره في الفقه تأتيه الفتاوى من العراق وخراسان وسائر البلاد، وهو من جزيرة ابن عمر. ثم دخلت:

.سنة إحدى وستين وخمسمائة:

.ذكر فتح المنيطرة من بلد الفرنج:

في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن زنكي حصن المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشد له، ولا جمع عساكره، وإنما سار إليه جريدة على غرة منهم، وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا، وانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصره، وجد في قتاله، فأخذه عنوة وقهراً، وقتل من بها وسبى، وغنم غنيمة كثيرة، فإن الذين به كانوا أمنين، فأخذتهم خيا الله بغتة وهم لا يشعرون، ولم يجتمع للفرنج لدفعه إلا وقد ملكه، ولو علوا أنه جريدةفي قلة من العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من رده.

.ذكر قتل خطلبرس مقطع واسط:

في هذه السنة قتل خطلبرس مقطع واسط، قتله ابن أخي شملة صاحب خوزستان.
وسبب ذلك أن ابن سنكا، وهو ابن أخي شملة، كان قد صاهر منكوبرس مقطع البصرة، فاتفق أن المستنجد بالله قتل منكوبرس سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فلما قتل قصد ابن سنكا البصرة ونهب قراها، فأرسل من بغداد إلى كمشتكين، صاحب البصرة، بمحاربة ابن سنكا، فقال: أنا عامل لست بصاحب جيش؛ يعني أنه ضامن لا يقدر على إقامة عسكر، فطمع ابن سنكا، وأصعد إلى واسط، ونهب سوادها، فجمع خطلبرس مقطعها جمعاً وخرج إلى قتاله.
وكاتب ابن سنكا الأمراء الذين مع خطلبرس، فاستمالهم ثم قاتلهم فانهزم عسكره فقتله، وأخذ ابن سنكا علم خطلبرس فنصبه، فلما رآه أصحابه ظنوه باقياً، فجعلوا يعودون إليه، وكل من رجع أخذه ابن سنكا فقتله وأسره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خرج الكرج في جمع كثير، وأغاروا على البلدان حتى بلغوا كنجة، فقتلوا واسروا وسبوا ونهبوا ما لا يحصى.
وفيها توفي الحسن بن العباس بن رستم أبو عبد الله الأصفهاني الرستمي، الشيخ الصالح، وهو مشهور ويروي عن أحمد بن خلف وغيره.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد الجيلي، المقيم ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، وكان من الصلاح على حالة كبيرة، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وستين وخمسمائة:

.ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى مصر:

قد ذكرناه سنة تسع وخمسين مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر، وما كان منه، وقفوله إلى الشام، فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى الآن.
وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها وبقصدها، وكان عنده من الحرص على ذلك كثير، فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء، فبلغت عدتهم ألفي فارس، وكان كارهاً لذلك، ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا أن يسير معه جمعاً خوفاً من حادث يتجدد عليهم فيضعف الإسلام، فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد اطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابل مصر، وتصرف في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفاً وخمسين يوماً.
وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم، فأتوه على الصعب والذلول، طمعاً في ملكها وخوفاً أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين، فالرجاء يقودهم، والخوف يسوقهم؛ فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم، وجدهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم، لقلة أعدادهم وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم، وخطر الطريق، فاستشارهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي يغلب على الظن، فإلى أين نلتجئ، وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا؟
فقام أميرمن مماليك نور الدين يقال له شرف الدين بزغش، صاحب شقيف، وكان شجاعاً، وقال: من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون في بيته مع امرأته، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه ليأخذن مالنا من أقطاع وجامكية، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا ويقول: تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل مصر إلى الكفار! والحق بيده.
فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمل؛ وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله، وكثر الموافقون لهم، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، وجعل صلاح الدين في القلب، وقال له ولمن معه: إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب ظناً منهم أني فيه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا نفوسكم، واندفعوا بين أيديهم فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم.
واختار هو من شجعان عسكره جمعاً يثق بهم ويعرف صبرهم في الحرب، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقاتل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره، وحملوا على القلب، فقاتلهم من به قتالاً يسيراً، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيف فيهم، فأثخن وأكثر القتل والأسر، فلما عاد الفرنج من المنهزمين رأوا عسكرهم مهزوماً، والأرض منهم قفراً، فانهزموا أيضاً، وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.

.ذكر ملك أسد الدين الإسكندرية وعوده إلى الشام:

لما انهزم الفرنج والمصريون من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية، فتسلمها بمساعدة من ألها سلموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان.
وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاح الدين بها، واشتد الحصار، وقل الطعام على من بها، فصبر أهلها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاور قد افسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشرط على الفرنج أن لا يقيموا بالبلاد ولا يتملكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، ونسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة.
وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج إلى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه إن يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالاً يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك، وحمل إليه مالاً جزيلاً، فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، فكان ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى.